لوّح عروة بيده، وتابعت الفتاة طريقها.
من هذه ؟
صديقتي ريما.
تقصد حبيبتك ؟!
لا، هذه مجرّد صديقة، أنا أحبّ لمى .
اسمها لمى؟! اسم جميل !
لمى حبيبتي الرائعة التي أشعلت الشمع في قلبي ، وأنارت لي الطريق الجميل ، وأوقدت نواقيس الفرح في حياتي ، أحببتها منذ الخامسة عشرة من عمري ، وحاولت إحدى صديقاتها أن تفرّق بيننا ، فأوهمتني أنّ لمى تحب غيري ، فجنّ جنوني ، كنت عندها في السادسة عشرة من عمري ، كتبت لها قصيدة أقول فيها :
" ماذا ؟!أ كنتِ بي تهزئين ؟! وفي حبك لي تكذبين ! نفسك يا غادرة تخدعين ! اعلمي ! ما كنتِ أبداً فتنة للناظرين، أو كأس خمر يسكر الشاربين، ما كنتِ إلا مائدة جميلة، تركت عليها البقايا للآخرين.."
هتف عروة بن الورد: هل تسمي ما قلته شعراً ؟! هذا كلام لا علاقة له بالشعر، بينك وبين الشعر مسافات.. اسمع هذه الأبيات:
أقلّي عليّ اللوم يا بنت منذر
ونامي وإن لم تشتهي النوم فاسهري
ذريني ونفسي أم حسان، إنني
بها، قبل أن لا أملك البيع مشتري
أحاديث تبقى، والفتى غير خالد
إذا هو أمسى هامة فوق صيّر
ذريني أطوّف في البلاد، لعلّني
أخلّيك أو أغنيك عن سوء محضري
توقف عروة بن الورد عن الإنشاد: - لعلّك تعرف قصيدتي "أقلّي عليّ اللّوم "
نعم أعرفها، وأحفظ بعض أبياتها، لكن الشعر في زماننا أصبح مختلفاً..
ما قلتَه قبل قليل لم يكن شعراً..
أنا مجرّد هاو، أكتب الخواطر لحبيبتي، ولست شاعراً مشهوراً مثلك..
نعود إلى لمى، ماذا حصل بعد ذلك ؟
اكتشفت أن لمى تحبني، وخاب كيد صديقتها الماكرة، وتعلقت بها أكثر، وحين سافرت مرّة مع أهلها للاصطياف، كتبت:" اليد ترتجف، والقلب ينبض بقوة، والعين تدمع لرحيلكِ، كيف ذلك بحق السّماء ؟! بكت الجوامد لفجيعتي، حزن الأعداء لنكستي، وجاءني الكرب باكياً."
أتكون لمى جميلة مثل اسمها ؟!
نعم جميلة ، وطيبة جدّاً ، لا تحقد على أحد،تحبني أكثر مما أحبها ، وتحترم آرائي وتقدّرها .
لابدّ أنّك أحببتَها من أول نظرة !
وهل يوجد حب من أول نظرة ؟! هذا في أفلام السينما فقط ، كنت أبغي التسلية وقضاء الوقت ، فوقعت في الحب دون أن أدري ، وأحسست أن لمى هي التي تناسبني ، وأريدها ، وقررت أن
أو قف غرامياتي، لأحب لمى فقط.
غرامياتك! أنت مجرد فتى في الثامنة عشرة من عمرك !
صحيح، لكنني محبوب جدّاً من الفتيات، وكنت ألاحق طالبات المدارس الإعدادية، وراهقت منذ الحادية عشرة من عمري حتى الرابعة عشرة، ثم أحببت لمى.
توقف عروة بن الشوك عن الحديث، تطلع بتمعن إلى عروة بن الورد:
لابد أنك تستغرب ما أقوله لك !
نعم، أنت تثير فضولي، واستغرابي..أكمل حديثك..
في مرحلة المراهقة كنت أقف أمام مدرسة البنات القريبة من مدرستي، وحين أرى الطالبات يخرجن من المدرسة، أتطلّع إليهن، وأطلق بعض التعليقات الطريفة لأثير ضحكهن، فكما تعلم الفتيات يحببن الشاب الظريف، بعد ذلك تجرأت أكثر، فصرت أختار الفتاة التي تعجبني، أتطلّع إليها بإصرار حين تمر أمامي، دون أن أحدثها، وأثابر على ذلك عدّة أيام، حتّى أثير فضولهن لمعرفة ما أريد، عندها أحدّثها، وأحييها بألفة كصديق قديم، وفي غمرة دهشتها، تنسى حذرها، وتحدثني،
وترافقني، وتتباهى بين صديقاتها بمعرفتي، وقد تحضر صديقتها معها، عندها أغتنم الفرصة للقاء صديقتها دون علمها، وبعد ذلك أتهرب منها، أغير طريقي، أبتعد عن المدرسة إلى مدرسة أخرى، أحياناً أقنع صديقة لي أن تصادق فتاة تعجبني كي تعرّفني إليها، مرة تعلقت بي إحدى الفتيات كثيراً، وأردت التخلص منها، فاضطررت لتهديدها بفضحها أمام أهلها، لتجنب مضايقاتها الهاتفية، مرة تحالفت فتاتان ضدي، وخسرتهما معاً، فقد التقتا مصادفة في أحد الأعراس، وتعرفتا على بعضيهما، كل واحد ة حدثت الأخرى عن خطيبها عروة الذي هو أنا، واكتشفتا أنهما تحبان نفس الشخص، وأنه يخدعهما معاً، ومرة عرفت طالبتين في إحدى المدارس، أوهمت كل واحدة منهما أنني أحبها، وحين عرفتا الحقيقة، اصطدمتا، وتضاربتا بالأيدي، وكانت معركة طريفة، وفضيحة، اضطررت بعدها للابتعاد إلى مدرسة أخرى، وحارة أخرى.
يبدو أنك تتسلى بقلوب الفتيات !
ولم لا تقول إنني أسليهن، وأمنحهن بعض الذكريات الجميلة، أنا أريد أن أظل صورة لطيفة في أذهان الفتيات، تتحسر كل واحدة علي إذا رأتني في الطريق.
الرجل الحق يا عروة الشوكي يحب مرة واحدة في حياته، أنا لم أحب سوى زوجتي سلمى بنت المنذر من قبيلة كنانة، وقد سبيتها في إحدى غزواتي، أعتقتها وتزوجتها، فكانوا يعيرون أولادي منها بأنهم أولاد السبيّة، فلم تهن عليها كرامتها، وطلبت العودة إلى أهلها الذين سقوني الخمر، حتى سكرت، ورضيت بردها إليهم، وندمت على ذلك، فقلت:
" فلا والله لو ملكت أمري
ومن لي بالتدبر في الأمور
إذاً لعصيتهم في حب سلمى
على ما كان من حسك الصدور"
زوجتك لم تكن تحبك، ولذا تخلت عنك.
كانت تحبني، لكن كرامتها كانت أغلى مني، أثنت علي قائلة: إنني طويل العماد، كثير الرماد، راضي الأهل والجانب، وكنت أعرض نفسي للأخطار، ولا أهاب الموت من أجلها، ومن أجل أولادي، وقومي الفقراء.
مسكين أنت ! أحببت واحدة تزوجتها، فتخلت عنك، أما أنا فقد عشت حياتي كما أريد، وتمتعت بأوقاتي، ولم أتزوج حبيبتي كي لا تقف عقبة أمام مستقبلي، فعلي أن أنهي خدمتي العسكرية الإلزامية، وأشتري بيتاً، وغير ذلك. . سألتني أم لمىعن نهاية حبي لابنتها، طلبت مني أن أتزوجها، ولكن ليس باليد حيلة، كنت أضعف أحياناً، وأقرر الزواج منها، ثم أتراجع. قال لي أصدقائي: تعرف على غيرها لتنسى حبها، لكن معرفتي بغيرها زادت حبي لها، وجعلتني أحس بالذنب، وأرقني عذاب الضمير، وعدت لأراها، ومازالت مشكلتي معلقة ليس لها حل … هل لديك حل لمشكلتي ؟!
ضحك عروة بن الورد: - حل مشكلتك بيدك لا بيدي، يبدو أنك تتسلى.
عروة بن الشوك: - هذه المرة أنا جاد، انتهت مرحلة الطيش، وأفكر بمستقبلي.
كانت الشلالات تتراقص أمامهما ، والحديث الطويل استغرقهما ، فلم يحسا بالوقت ، بدأت الشمس بالغياب ، والمساء يزحف رويداً رويدا .
قال عروة بن الورد: حديثك شيق، لكنك صدمتني بآرائك وتصرفاتك الغريبة.
أنا ابن هذا العصر، أتكلم لغته، لو كنت تعيش في عصرنا لما حدثتني عن المثاليات، والجرأة، والشجاعة، والشهامة !
-مخطئ أنت، لكل عصر فرسانه، وشعراؤه، وشجعانه تعال معي إلى الصحراء، علك تطهر نفسك من الشوائب ….
وهل أغامر بترك مدينتي برفاهيتها لأذهب إلى صحراء ليس فيها سوى الرمال ؟! لك صحراؤك، ولي مدينتي، لك سيفك، ولي لساني، لك إخلاصك وشهامتك، ولي واقعيتي، وشطارتي.. ألن تتجول في المدينة ؟! حلب جميلة في الليل.
لا.. لا أريد رؤية الكثيرين من أمثالك.. سأعود سريعاً إلى عصري وعالمي.. وداعاً أيها الشوكي !
قفز حصان عربي أصيل أمامهما، خاطبه عروة بن الورد – اقترب يا حصاني أنا بانتظارك..
شهر سيفه، امتطى حصانه، واختفى..لم يبق أمام الشلالات سوى عروة بن الشوك يجلس وحيداً، على المقعد، يكمل تدخين سيجارته، وينظر إلى ساعته، فلديه موعد هام ينبغي أن يسرع إليه