وانا اتصفح اليوم اعجبتني هذه القصة ارجو ان تعجبكم
كاتبتها ندى الدانا
وصل عروة بن الورد إلى مدينة حلب، حطّ الرحال في ساحة سعد الله الجابري، تطلّع الناس إليه بدهشة: " رجل في هذا العصر يرتدي زيّاً قديماً، ويحمل سيفه ! " . ظنّوه مهرّجاً أو مجنونا.
اقترب منه شاب يافع، تأمله باستغراب، وقد وضع إحدى يديه في جيبه، وحمل سلسلة مفاتيح باليد الأخرى، يلوح بها باستهتار. نظر عروة بن الورد إلى الشاب ليرى وجهاً صبوحاً، وثياباً حديثة الطراز، وشعراً مصففاً. سأله الشاب: - من أنت ؟!
أنا عروة بن الورد ازدادت دهشة الفتى:
عروة بن الورد ! هل تمزح معي ؟! أنت ممثل تقلد شخصيته، عروة بن الورد شاعر جاهلي مات منذ زمن بعيد.
أنا عروة، عدت إلى الحياة، وجئت إلى عصركم لأكتشفه. ضحك الفتى: - أنت رجل ظريف ! هل أستطيع مساعدتك في اكتشاف عصرنا ؟! عروة بن الورد : نعم أحتاج لمرشد لي في هذه المدينة ، ولكن يجب أن أستريح قليلاً ، فأنا متعب من السفر . تطلّع الفتى إلى الحديقة العامة أمامهما: - تعال لنجلس في الحديقة ! مشى الاثنان باتجاه باب الحديقة ، جلسا على أحد المقاعد أمام الشلالات ، سأل عروة الفتى : -ما اسمك ؟
عروة الحلبي.
اسمك عروة أيضاً، مصادفة جميلة ! تابع الفتى: يلقبونني عروة بن الشوك لسلاطة لساني، وشغبي وشقاوتي. ابتسم عروة بن الورد:-لكل وردة أشواكها، يبدو أن الورد لي والشوك لك !
شمس نيسان أضاءت وجه الفتى، تسللت أشعتها إلى الغبار الذي يعفر ثياب عروة بن الورد الذي اتجه إلى صنبور الماء ليغسل وجهه، وينفض الغبار عن ثيابه، عاد إلى مقعده منتعشاً، نقل بصره
بين الشلالات، والأشجار، والأزهار: - جميلة هذه الواحة !
النسمات الربيعية الدافئة داعبت العروتين، قال عروة بن الشوك:
إذا كنت حقاً عروة بن الورد، حدثني عن حياتك !
ألم تصدقني بعد ؟!
لا
أنا أيها الشوكي عروة بن الورد بن زيد بن عبس بن مضر، فارس، وصعلوك، وشاعر من العصر الجاهلي، تمردت على المجتمع، وناصرت الفقراء والضعفاء، كنا نغزو القوافل، والقبائل، للحصول على الغنائم، وكنت أساعد الصعاليك إذا أخفقوا في غزواتهم، وأجمعهم، لذا لقبوني بعروة الصعاليك، ألم تسمع بقصيدتي المشهورة التي أقول فيها:
أفرق جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء، والماء بارد
نعم أحفظ بعض أبياتها التي تصور الكرم بشكل رائع:
إني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني إن سمنت وأن ترى
بجسمي مس الحق ، والحق جاهد
يسعدني أن تحفظ أشعاري، وأحب أن أتعرف إليك أكثر.
تطلع إليه عروة بن الشوك بتمعن، أخرج من جيب قميصه علبة سجائر( مالبورو)، أسند مرفقه إلى المقعد بشكل استعراضي، رسم ملامح الجدية على وجهه وكأنه شاب في الثلاثين، مد رجله اليسرى أمامه، أسند اليمنى إلى طرف المقعد، مال باتجاه عروة بن الورد، وهو يخرج من جيبه قداحة ثمينة، قدم علبة السجائر إلى عروة بن الورد
هل تدخن ؟
لا
نسيت، أنت من العصر الجاهلي، لم يكن لديكم سجائر.
أشعل عروة بن الشوك سيجارته، بدأ ينفث دخانها غي الهواء، وهو يتأمل الأشجار.
أنا شاب في الثامنة عشرة من عمري، أدخن علبتي مالبورو في اليوم، يتيم الأب منذ الحادية عشرة من عمري، توقفت عن الدراسة في منتصف المرحلة الثانوية رغم تفوقي كي أتعلم الخياطة وأعمل بها، مللتها، اتجهت إلى التجارة، وأنا أعمل منذ عامين مندوب مبيعات.
ماذا تبيع ؟
-كل شيء، أعمل مع تاجر جملة يبيع أنواعاً كثيرة من المواد، أسافر إلى معظم المدن السورية، وإلى بيروت لأبيع البضائع.
هل تسافر وحدك ؟
نعم.
في زمني كنت أغزو القوافل مع أصحابي، وأوزع الغنائم عليهم، حين كان يهزمهم الفقر يهرعون إليّ قائلين: "يا أبا الصعاليك أغثنا !". فأخرج لأغزو بهم، وأنت كيف تعامل أصحابك ؟
أصحابي !ليس لدي أصحاب، أنا لا أثق بأحد، ولا أصادق أحداً، ولا أعادي أحداً أيضاً، أترك شعرة معاوية بيني وبين الآخرين.
أنت منافق لا تحب أحداً.
أنا واقعي ابن هذا الزمان.
كنت نصيراً للفقراء والضعفاء، أجمعهم وأجزل لهم العطاء، وكل غزواتي على الأغنياء هدفها إنصافهم، وتوزيع الغنائم عليهم، ولم أكن أبغي الكثير لنفسي، فمثلي الأعلى تحقيق العدالة والإنصاف، فما هو مثلك الأعلى ؟!
مثلي الأعلى هو مصلحتي، والحصول على المال لبناء مستقبلي.
حدّثني عن والدك.
والدي رحمه الله كان قوي الشخصية، طيباً مع الناس، حنوناً، يحب أمي، ويحبنا أنا و أخوتي.
وأمك ؟!
أمي رائعة وحنونة، تحبني أكثر من أخوتي السبعة، فأنا أصغرهم، وأرضيها دائماً، وأجلب لها الهدايا حين أسافر.
كأنك لست ابناً لأمك وأبيك !
ضحك عروة بن الشوك بسخرية: -زمانهم غير زماني !
كان عروة بن الشوك يتحدث بحماس وهو ينفث دخان سيجارته، ويتطلع إلى سيف عروة بن الورد المعلق على كتفه: -ارني سيفك.
أعطاه السيف، أخرجه من غمده، تأمله: -سيفك لا يصلح لزماننا..
ولم ؟!
ضحك عروة بن الشوك باستهتار، مدّ لسانه، أشار إليه بإصبعه:- هذا اللسان الذي تراه أمامك هو سيفي الذي أحارب به الأيام والظروف، هذا زمان الكلام لازمان السيوف.
وهل يغني الكلام عن السيف ؟!
ليس الكلام فقط، بل الحيلة والدهاء، في عملي أجنّد كلّ حيلي وشقاوتي للنجاح، أصادق الزبائن، أحدثهم بأسلوب ناعم لطيف، في البداية لا يشترون بضائعي، لكنّي أصرّ على زيارتهم دائماً كصديق حميم حتّى يشتروا منّي خجلاً، أخفض الأسعار أكثر من غيري حتّى أكسبهم، وبعد ذلك أزيدها بالتدريج، وحين يأمنون جانبي، وتسنح لي الفرصة، أبيعهم بسعر مرتفع.
بالك من محتال !
ضحك عروة بن الشوك ضحكته الساخرة، وقف، بدأ يحرك رجليه ويرقص.
أنت بارع في الرقص..
هذه رقصة حديثة تعلمتها على يد مدرّب خاص، لابدّ أنك جائع !
نعم
انتظرني قليلاً، سأحضر بعض الطعام من مطعم قريب، ونأكل في أحضان الطبيعة.
حين ذهب عروة بن الشوك، تأمل عروة بن الورد الناس الذين يمشون في الحديقة، ويتطلعون إلى هيئته باستغراب، أحسّ بحنين إلى الصحراء، إلى عصره الذهبي، كانت مدينة حلب آخر محطّة في رحلته إلى هذا العصر الذي لم يعجبه، استغرق في أفكاره وتأملاته التي قطعها عروة بن الشوك، وهو قادم باتجاهه يحمل صندويش همبرغر وشاورما، ابتدآ يأكلان، مرّت بجانبهما فتاة يافعة، ابتسمت لعروة، لوّحت له بيدها: -هاي عروة..