عذراً كولونيا ...
رغم صفاء الشمس , لا أستطيع أن أعطيكِ حقك في المجاز . فأنا مثلُ غزال صاح في حتفه على النبع : لولا العطش لبقيت حياً و لتحاشيت سهم الغدر الذي أصابني من ورائي , و لولا السراب لما عطشت أكثر , أنتِ أيضاً نبعي الذي لا يروي خلاياي و أنتِ أيضا مملكة العطر الأصفر و عاصمة الجنون و أنتِ أجمل مما أراكِ - فقد تَعًّذرَ عليَّ النظر و كبرت دون أن أعرف أن قوس قزح ذا الألوان الكثيرة ليس في عينيَّ سوى ثلاثة ألوان غريبة لا أحد يفهمني اذا حاولت تسميتها . لستُ أعمى البصيرة و لكني أعمى الألوان . فلا تستغربي اذا قلت عن البرتقالي ليلكياً ... هنا يلزمني أن أعرف الألوان لأنها كثيرة ... فليعذرنني ذواتُ العيون العسلية لأني أخاف الغزل في لونها , يكفيني أن أكون متأكداً بأن عيونهن لسن سوداوات , و اليعذررني ذوات العيون البنية اذا أعجبني سوادها ! , و التعذرني كولونيا إذ لا أرى من ألوان ليلها سوى الأزرق و بعض الأصفر .
لولا صفاء الشمس في وطني لأععجبني نهار اليوم . لا خَمرَ عند العرب اليوم و لا أمرٌ غداً ! , أيامنا مثلُنا ... اذا الريح مالت مالت حيثُ تميل ... فلا خير في ودّ أيامي المزاجية .
لا أعرف كيف يمكنني أن أرضى بربع حقِ يحرمني من أحلامي و ذكرياتي الشفوية . لا أحلم بوطن لا يعطيني حق الذهاب اليه , لأن جارتنا اللدود تملكه قسرا ! .
هناك تتربع تلك المدن على قلبي و لا ترضى بغيرها معشوقاً , هي حكمة المسلوبِ حقُّه , لا يجوز لي أن أخون ذاكرتي و أن أتخلى عنها , مَن أنا لأقبل ثقتها القويةَ في البداية ثم أخونها ؟!. لا شيء في وطني يحبُّ عدوَه ... لا الشجر و لا الحجر و لا حتى ديدان الأرض فكيف لي أن أرضى بهم ؟
و أنا كذلك ... لا أكره الناس و لا أقسو على أحدِ و لكني اذا ما غضبت أكره كل شيء حولي , أكرهُ كل شيء يتعبني و يؤرقني , و أكره الموسيقى الكلاسيكية المظلمة كما أكره قطراتِ المطر الساقطةِ عليَّ في صيف أوروبا .
صديقتي الجليلية
هل لا زلتِ بخير ؟ , و هل لا زلت محتارةً في تصنيفي بين الرجال ؟ , هل لا زلت تغارين من حبي لغيرك ؟ ... صديقتي . لا شيء يجمعُنا سوى ذاكَ الذي فرَّقنا . أنتِ مصابةٌ مثلي بجنِّ الوطن البعيد , تظنين أن العشقَ يمكنُ نقلُهُ من شخص لشخص ... لا كِبرَ لي في حب وطني , أحبُّهُ وأريدهُ كلَّه بصخرِه و تلاله و شجره و ترابه . أنت تظنين أن الحب عاطفةٌ وراثيةٌ أو شهوةٌ للجسد , لم ينهني أحدٌ عن حب وطني , كما لم يعطني أحدٌ وساماً رفيعاً في هواه ... أنا أرضى بوطن كاملِ الأوصاف ... لا أُسَمّي شيئاً تنازلاً .
صديقتي . دعي العواطف البشريةَ و الكره و استمعي لحديثي ;
مثلما خلقَ اللهُ البشر أنزلَ العدلَ بينهم , و لأن الناس نسوا حقَّ اللهِ عليهم في أن يستغفروه كما عَصوه ظُلمتُ أنا ! .
أنا أصلُ الحكاية ... بشريٌّ وُلدَ قمحياً مثلَ باقي عائلته و عاش على ترابٍ أحمرٍ و بنى جسده من خير أرضه كَبُرَ و نضُجَ و تبِعَ دقاتِ قلبِه , أحَّبَ وطنَه قبل المراهقةِ و مهما تنقلَ في هواه ... ما الحب الا للحبيب الأول ... , و عندما رآى مَن حولًه في مختلف أعشاقهم انتظرَ قليلاً . ’ لماذا لا أكونُ كغيري ؟ أُحبُ وطني قليلاً و أُحبُ امرأةً ما قليلاً ! , . جربت فخسرت , صرتُ كحَمَلٍ تعلقَ بذئب و نسيت رائحةَ التراب الأحمر , و ظننت أن رائحةَ البارفوم النسائي تغنيني عن رائحة دمي التي تشبه رائحةَ الصدأ و هي مختلطةٌ بالتراب . و لمن يستغرب .. أعرف أن الفرق كبير و لا تشابه في الاختلاف , و لكني لا أحب التفريق بين قلبي المحب لوطنه أو لفتاة ما , و عندما تظن فتاةٌ أنه بوسعِ قلبي أن يضيقَ لها وحدها أكون أنا المخطئ لأني الى هذه اللحظة لم أستطع أن أوحي لها بأن وطني الذي يتسعُ له قلبي يمكنه أن يحملَها أيضاً عليه . اذهبي مرةً الى حيفا لتعرفي أنك تستطيعين أن تتمشي على قلبي كما تشائين و تستطيعين أن تأكلي الآيس و أن توبخيني اذا أردتِ في عقرِ قلبي . اذهبي مرةً الى عكا فربما تستطيعين هناك أن تدربي قلبكِ على الحب و ربما تُفلحين و لو لمرةٍ في قصةِ حب مشابهةٍ لتلك التي أعجبتك و تمنيتِ تَقَّمُصَ دورَ بطلتها في أحد الأفلام الفلسطينية . كنتِ تظنين أن أقدم فساتين الموضة الجميلة صُمِّمَ في روما أو باريس مثلَ آخرها و لكنك رأيتِ أن أعرقا خِيْطَ قبل التفكير بدُورِ عرض الأزياء و عُرضَ بين الزيتون في رام الله و نابلس و الخليل ! . أنتِ لستِ مذنبة و أنا كذلك لست محظوظاَ في هويتي نصف الحقيقية ; فنابلس تلفظني لأني ابتعدت عنها و كولونيا تعاقبني لأسباب تتعلق بلون الشعر و اختلاف المبادئ و ربما لاختلاف الشهوات . قد يحلو لي أن آكل بعض المكسرات و أن أنْفث دخان سجائري على ذلك التل المغروس في بلدي و الذي أسرني بحبه طوعاً كما قد يحلو لذلك الكولوني شرب بعض الكولش في حانوته التقليدي على الراين ...... لا أشرب الخمر و لا أُجيد التمتع في انسياب الماء لكن الكولوني يستطيع مثلي أن يصعد التل و ربما يستلذ أيضا بسيجارة عليه , و عندما تنتهي اجازته في وطني يرجع فرحاً أما أنا عندما أذهب في اجازة الى وطني فانني أرجع حائراً . ’ هنا أو هناك أنا لست الا زائراً , .
لأني لا أجيد السعادة أخجل من أي شيء و ربما أسخر منه لكسلٍ يصيب شجاعتي و يوقفها عن التبختر كلما احتجت لها . ها أنا اليوم عائدٌ من زيارة قصيرة كنت قد تلقيت دعوةً عامة لها ; ذهبت بين جموع الناس في هيرنة عَلِّي ألتقي تلك الملامح التي جذبتني لها قبل أعوام ... صرت أبحثبين جموع الحاضرين عن تلك المهندسة التي صممت لقلبي بيتا مثالياً من العواطف الأُحادية ... لم أرها و لكني اكتفيت بقربي من مدينتها . أعترف أني عاشقٌ كلاسيكي للغاية و لكني أختلف قليلاً عن المراهقين , ربما لأني أكبُرُهم قليلاً أو لأني أدرب قلبي على الحب ... عندما أَبَيْتُ أن يناصف وطني وطنٌ آخرُ في حبي تعلمتُ بعض القساوة فصرت أقيس هذا على النساء :
المرأة في نظري وطن , اذا أحببتها أعطتني ما أحتاج من سهر و خبز و هدايا و ابتسامات و لا أخجل من بعض القبل . يمكنني أن أختصر جنوني هذا و أقول : للمرأة في حياتي نصيبٌ في أن تكون وطناً و لكني اذا خسرتها لا أخسر و طني بأي شكل كان . هكذا أحس برجولتي و هكذا أعلم أن نصيب باريس في أشعار العرب كان أكبر من عمقها في قلبي ; باريس في نظري تقل كثيراً عن زقاق القدس .
على مدرج كتدرائية الدوم في كولونيا تتدحرج مشاعر العربي شعوراً تلو الآخر و يغرقُ مرةً أخرى في أمجاد غرناطة و قرطبة , كلما نظر خلفه و رآى الحجارة و الزخارف و القمم العمرانيةَ تتعالى قال : قبة الصخرة أيضاً جميلة ... يرهقه التغير في المكان ... ربما هي الغيرة أو الحيرة . وطني يئن و كولونيا تستقبل الزوار , أقول ثانيةً في سري : تفضلوا الى وطني , و لا أترك ملاذاً سانحاً الا و ذكرتُ فيه بيتَ لحم و القدس و الناصرة , ولكن الغباء المبرمجَ يحاصرني في بلادٍ لا يجوز فيها أن يكون لك أعداء و عليك أن تصمت قليلاً لكي لا يصفك أحدهم بالرجعية . يُرَّكزُ الغباء ثم يُصَبُ في أُذُني لأسمع معلومةً جديدة ’ آه هناك في اسرائيل وُلد المسيح , ... نَعَمْلا لا أعتقد أن المسيح كان من حَمَلة الجنسية الاسرائيلية لأدعي أنه كان مِن حَمَلة الجنسية الفلسطينية , ولا أعتقد أن محمداً عليه السلام قد توقف به البراق على خليج العقبة ليأخذ اذناً بالدخول الى الأرض المباركة .
وطني ليس مسافراً ليكون في مكانٍ غيره و أنا لستُ حقيبة ليبحثَ في داخلي كل الأغبياء عن فتيل حقدٍ أو كرهٍ لأعدائي ثمَّ أُسَّجَلُ في الحاسوب ’ غير مُعرف, .
أيتها الجليلية
فكري قبل أن تُغضبيني بأنَّ لحمي ترابٌ أحمر
و بأنَّي أحملُ في أحشائي حُباً يضاً
وقبل أن تقتسمي بجنونكِ حُبَ الوطن معي
انتظري .... خذي حبه كُلَّه
فالبحرُ لا يملأ جرَّة ! .
وطن