رسائل غسان كنفاني الى غادة السمان :
11/4/1967
غاده....
لست أعرف ماذا يتعين عليّ أن أكتب لك .... لقد أرسلت لك رسالة مطولة منذ أسبوع ،ومع ذلك فرسائلك تقول أنك لم تتسلمي شيئا ،وأناأشعر بالذنب،وأخشى أن تعتقدي للحظة أنني ألعب دورا ، أو أن نبضي لك قد أخذ يخفق في فراغ ،أو أنه صمت , أو أنه أتجه نحو مرفأ آخر :دونك أيتها الغالية لا شيء ولا أحد .....وغيابك ليكن من يكن الذي سيختاره لن يعوض ..... بعدك مستحيل .دونك لا شيء و لكن غيرك غير ممكن .
أنت في جلدي ، وأحسك مثلما أحس فلسطين : ضياعه كارثة بلا أي بديل ، وحبي شيء في صلب لحمي ودمي ، وغيابها دموع تستحيل معها لعبة الاحتيال .
لقد وقع الأمر ، ولا فرار .... العذاب دونك ،ولكنه ، دائما ، عذاب جارح ، صهوة تستعصي على الترويض .
انني أكره ما يذكرني بك ، لأنه ينكأ جراحا أعرف أن شيئا لن يرتقها. أنا لا أستطيع أن أجلس فارتق جراحي مثلما يرتق الناس قمصانهم .....و يا لكثرة الأشياء التي تذكرني بك :الشعر الأسود حين يلوّح وراء أي منعطف يمزّع ، النظارات السود ما تزال تجرحني ...السيارات ،الشوارع ، الناس ، الأصدقاء الذين تركت على عيونهم بصماتك ، المقاعد ، الأكل ، الكتب ، الرسائل ،المكتب ، البيت ، الهاتف ، كل ذلك ، كله .... هو أنت ، وقبله : أذكرك طالما أنا أنا ... وحين أنظر . الى كفي أحسك تسيلين في أعصابي ... وحين تمطر أذكرك ، وحين ترعد أسأل :من معها ؟ وحين أرى كأسا أقول : هي تشرب ؟ثم ماذا ؟
لقد صرت عذابي ،وكتب عليّ أن ألجأ مرتين الى المنفى ، هاربا أو مرغما على الفرار من أقرب الأشياء الى الرجل وأكثرها تجذرا في صدره الوطن والحب .
واذا كان عليّ أن أناضل من أجل أن أسترد الأرض فقولي لي ،أنت أيتها الجنية التي تحيك ، كل ليلة ، كوابيسي التي لا تحتمل ..... كيف أستردك ؟
.
وحين أكتب ليس ثمة قارئ غيرك , وحين أقود سيارتي في تعب الليل وحيدا أتحدث اليك ساعات من الجنون ، أتشاجر ، أضحك ، أشتم السائقين ، أسرع ، ثم أقف : أحتويك وأقبلك و أنتشي .
انني على عتبة جنون ولكنني أعرف قبل أي أنسان آخر أن وجودك معي جنون آخر له طعم اللذة ,ولكنه لأنك أنت ، التي لا يمكن أن تصلح في قالب أريده أنا .جنون تنتهي حافته الى الموت !
أمس رن الهاتف في المنزل ، ورفعت السماعة ... لم يكن ثمة أحد يتكلم على الطرف الآخر وهمست ، بعد لحظة ، بصوت جبان : غادة ؟
وهذا كله لا يهمك ....أنت صبية وفاتنة وموهوبة ... و بسهولة تستطيعين أن تدرجي اسمي في قائمة التافهين ، وتدوسي عليه وأنت تصعدين الى ما تريدين .... ولكنني أقبل ... انني أقبل حتى هذه النهاية التعيسة !
ماذا أقول لك ؟ انني أنضح مرارة ... يعصر لساني الغضب مثلما ... يعصرون البرتقال على الروشه ، لا أستطيع أن أنسى ، ولا أستطيع أن أبعد عن وريدي شفرة الخيبة التي بذلت جهدا ، يشهد الله كم هو كبير ، لتجعلينني أجترعها بلا هوادة !
ماذا يهم ؟ ها أنت تكتبين الآن وأنت على بعد ألفي ميل ما كنت تستطيعين أن تقوليه حين كنا يدا في يد ..... ومع ذلك فهاتي الحب ! كيف ؟ كيف ؟
لا أعرف ماذا أريد . لا أعرف ماذا أكتب . لا أعرف الى أين سأنتهي . و الآن خصوصا أنا مشوش الى حد العمى : ان النقرس يفتك بي مثل ملايين الابر الشيطانية . أشفقي عليّ أيتها الشقية ... فذلك على الأقل شيء يقال .
قلت : لنتحدث في الهاتف ... أما أنا فليس لدي قرش أستطيع أن أصرفه ، وأن أصرفه خصوصا على عذاب لا أحتمله . لقد تقوّض هذا الشيء الذي كنته ، وأنا حطام، وأعرف أن ذلك شيء لا يسرّك كثيرا ، ولكنه حدث : عنوان القصة .
حازم؟ أجل حازم (أحد أبطال قصص كتابي ليل الغرباء) من نوع أكثر صميمية :أنني أكثر شجاعة منه في وجه العدو المعذّب ، ولكنني أقل منه شجاعة في وجه الحب .
انني أعطيك بطل قصة ، مخلوق جدير بالتفحص في أنبوب أختبار ... وسأكون سعيدا لو عرفت كيف تكتبين عن رجل أحبك حقا ، و لم يخطئ معك ، وظل يحترمك ، ولم يكترث يأيما شيء في سبيلك .... دون أن تمنحيه بالمقابل شيئا الا (آذان الآخرين) و الاغتراب والصمت .
لا !
لا تتحدثي معي بالهاتف .... اكتبي لي كثيرا ..... أنا أحب رسائلك الى حد التقديس ، وسأحتفظ بها جميعا وذات يوم سأعطيها لك .... انها – أيتها الشقية – أجمل ما كتبت أنت وأكثرها صدقا....
كنت قلت لك في رسالتي السابقة أنهم يريدونك لتكتبي للمصور من لندن .... حاولي أن تفعلي ، واكتبي لأحمد بهاء الدين.
أرجوك : أكتبي لي .
غسان كنفاني