رمت أمواج البحر بنفسها في حضن قريتي, تتوق لمعانقة سهولها الخضراء التي يتربع في حضنها جبل شامخ في السماء, شموخ الآباء والأجداد وباسط ذراعيه ليحضن ما تحمله أمواج البحر ليل صباح .
وتلفح وجوه رجالها شمس السماء, فيتصبب عرقهم وهم مشمرون السواعد يفتتون الصخر ليفرشوا مكانه ترابا أسمر, جبل بعرق ودماء أجدادنا والآباء , ويقلعون الشوك لتنبت مكانه الورود والأزهار .
نساؤها يحملن على رؤوسهن صواني القش غزلنها برسم من وحي الواقع والخيال , وعلى الصواني وجبة الغداء يقاسمنها الرجال في ظل الشجر وعلى خرير الماء.
تنام قريتي كل يوم على شدو البلابل وتغريد الطيور وزقزقة العصافير قبل أن تغطس شمسها الذهبية في صفحة بحرها.
وفي ليالي الصيف , يتسامر أبناء قريتي تحت ضوء البدر من السماء وينشدون أغاني وأهازيج الحصاد .
وكان مختار القرية وأكابرها يتسلقون الجبل ويجلسون على قمته يرقبون القرية ويحرسونها من كل طامع وحاسد وأفاق .
وفي ذات يوم قذفت الأمواج على شاطيء القرية ما أثقلت به . وبطيبة قلوب أهل قريتي أحتضنوا البؤساء والتعساء القادمين من وراء المجهول , وأكرموا مثواهم وعاملوهم بأحسن ما في الرفاده , وليس غريبا عنهم طبع الأجداد.
ما لبث القراصنة البؤساء يكشرون عن أنيابهم , فلم يصدق أهل قريتي ما رأووه وظنوا أن زاغ البصر , فأمعنوا البصر كرة أخرى فرأوو هول ما رأوا ,البؤساء !!! يحملون بنادقهم ومدافعهم هاجمين عليهم تفوح من نظراتهم ومن بين أنيابهم رائحة الغدر والخيانة ولؤم الأخلاق, فتصدى لهم أبناء قريتي بالعصي والفؤوس والمناجل .
وقتل من قومي من قتل ........ وطرد من داره وأرضه من طرد......ورحلوا لشرق القرية يجرون خيبة أمالهم حتى أنهكهم وأعياهم التعب , وحط بعضهم في شرق القرية ومن بقي فيه قوة على المسير أبتعد أكثر, ونصبوا الخيام بعد القصور.. . وافترشوا الأرض والشوك بعد ريش النعام .
فصعد القراصنة لقمة الجبل الذي أحتضنهم بين جناحيه وقتلوا المختار ومن معه , وبنوا الحصون على الجبل والجدران وشائك الأسلاك على حدود ما أغتصبوه من أرض القرية.
فصار أهل قريتي يتحسرون صباح مساء فهم يرون أرض آبائهم وأجدادهم أمام عيونهم لا يستطيعون مس ترابها .
فهب فتية من قريتي لإسترجاع ما سلب منهم , فصاروا يلملمون شتات أهل القرية , فمنهم من تغنى على الأيام الخوالي , ومنهم من بث العزيمة بالهمم , ومنهم من حمل السلاح ليقاتل القراصنة . فطال القتال....... وولت أجيال وولدت أجيال ...وكل جيل يورث من خلفه قصص الماضي والحنين للأرض . فكر فتية بقتل مختار القراصنه الذي يتربع على قمة جبلهم الذي ظل شامخا حتى بعد أن سلبه القراصنة واللصوص, وأحضروا الحبال والمسامير وما يلزم لتسلق ذلك الجبل الذي يعانق السماء, فتمكن أولهم بعد طول عناء من وصول الحصن في القمة فأكتشفه حراس القرصان فقتل منهم ما قتل ثم أردوه شهيدا , تخطفته يد الملائكة فصاح فيها ـــ مهلا أريد أن أكلم قومي ,وقال بأعلى صوته أن يا قوم أصعدوا فوالله اني أرى جميع من في الحصن يرتعد ولا تترددوا فإنهم لا ينامون خوفا وهلعا ـــــ ولكن الكثير من قومي لم يسمعوا صدى الشهيد فهو في عليين وسمعه فقط ذوي الحس المرهف , فاصطف من سمعه طابورا تسلقوا الجبل واحدا تلو الآخر , يصلون الحصن فيقتلون ويقتلون . وثار من في القرية جميعا وحملوا سلاحهم وفؤوسهم وخناجرهم وحجارتهم وهجموا على الجدار والأسلاك فقتل الأول.... والآخر .... الى أن تكدست جثث الشهداء فوق بعضها وبنوا بأجسادهم سلما ليعبر الآخرون من أهل القرية على جثثهم ذلك الجدار, وقلعن النساء أوتاد الخيام وحملنها يركضن ضربا بالقراصنة الجبناء وعلت صيحات التكبير من على قمة الجبل وفي السهول والوديان , فهرب من في الحصن وهرب القراصنة الى البحر عل أمواجه التي جلبتهم أن تعيدهم الى حيث أتوا , فلفظهم البحر ولم يحتمل نتنهم .
فرجع أهل القرية الى ديارهم وأرضهم وبعد أن استيقظت بلدي ورحل عنها ذلك الكابوس الطويل , أقيمت الدبكات والسهرات والحفلات وعلت الزغاريد والأناشيد :
هدّا البلبل عالرمـان *** ترك النوح والنا غنـــا
وهاي وجوه النشامى*** مرفوعه لفوق تضحك النا
يا دار يا دار قد عدنـا *** نطليكي بعد الشيد بالحنـا
وهاي من أم الشهيد ***أحلى زغروده لوطننــا
ولفلسطين نشدنا الحريه ***بأشعارنا وأفكارنا وأملنا