ما العلاقة بين بناء الجدار الفولاذي ومنع طه حسين ومجزرة نجع حمادي ضد الأقباط في مصر؟
الفتوى الأزهرية بالسماح ببناء الجدار تبدو عملاً متناقضاً مع تشدد المؤسسة الدينية العريقة مع كتاب 'الأيام'، الذي تقرر حذفه من المنهاج المدرسي المصري بضغط من الأزهر. لماذا يكون التسامح مع اسرائيل ممكناً، بينما يواجَه عميد الأدب العربي بالتشدد وتشن الحملات على احد اجمل نصوص الأدب العربي الحديث، لأن صاحب 'الأيام' روى بأسلوب نقدي تجربته كطالب في الأزهر؟
كما ان كارثة نجع حمادي، والسعار الطائفي الذي يجتاح مصر، يتناقض في شكل صارخ مع الخطاب الأصولي الذي يدعو الى مواجهة اسرائيل. مقاومة الجدار الذي يُبنى في باطن الأرض كي يخنق غزة المنكوبة بالدمار، بحثاً عن الرضى الاسرائيلي والامريكي، تكون بالنضال ضد من يبنيه. اسرائيل تصرّ على تعريف نفسها في وصفها دولة يهودية. كيف نفسّر الصمت والتواطؤ مع بناة الجدار الذي يحمي اليهود الاسرائيليين، بينما تُرتكب مذبحة في عيد الميلاد ضد المواطنين المسيحيين؟
المنطق البسيط يقول ان ما يجري ليس منطقياً، بل يبدو اقرب الى الجنون.
لكن من قال ان الجنون لا منطق له؟
ولكن قبل ان احاول تحليل منطق الجنون، اريد التوقف عند مسألتين:
الأولى، هي الحذر من التعميم، اذ لا شك عندي ان مرتكبي مذبحة نجع حمادي لا يمثلون جميع التيارات الأصولية، بل قد لا يكونون سوى مستغلين للفكر الأصولي كي يغطوا به احقادا عشائرية او عائلية او طائفية. غير ان رفضنا للتعميم يجب ان لا يتجاهل ان هناك مُناخاً سياسياً وفكرياً بدأ يسود، وهذا المناخ لا يكتفي باطلاق الكلام جزافاً ضد النصارى، بل يحرّض ويدعو للعمل لتفكيك النسيج الاجتماعي. وهو بذلك يبرر للقتلة جرائمهم.
الثانية، رفضي القاطع للقبول بمنطق تصوير الصراع في فلسطين في شكل طائفي او ديني. هذا ما يريده الصهاينة لأنه يقدّم تبريراً دينياً لجريمة ارتكبت عام 1948، ويمهّد لجريمة الترانسفير التي يتمنى الفاشيون الاسرائيليون ارتكابها اليوم قبل الغد. من هنا اصرار نتنياهو على فرض الاعتراف الفلسطيني باسرائيل كدولة يهودية.
نعود الآن الى تحليل منطق الجنون الذي عبّر عن نفسه في سيل التناقضات التي اتت بها الاحداث التي أشرت اليها. وهي احداث لا تختلف الا من حيث الشكل عن هستيريا كرة القدم في مصر والجزائر، التي اطلقت العنان لعنصرية رعناء هدفها تفكيك فكرة العروبة نفسها.
بناء الجدار الفولاذي، والفتوى بشأنه، يصبّان في الاتجاه نفسه. فالجدار يقدّم على انه قرار سيادي مصري. لكن متى كانت السيادة الوطنية مناقضة للفكرة العربية، وللواجب الأخلاقي في دعم الشعب الفلسطيني المحاصَر في غزة؟ ثمّ الا يعرف النظام المصري ان سيادته منقوصة على سيناء بسبب معاهدة كامب دافيد؟ ولماذا يرفضون المس الفلسطيني بالسيادة ويوافقون على الانتهاك الاسرائيلي لها؟
اما حكايتا طه حسين ونجع حمادي، فانهما تذهبان الى ابعد من ذلك لأنهما تهدفان الى تفكيك الوطنية المصرية نفسها، وتحويل ارض وادي النيل الى بؤرة للانهيار والحرب الأهلية.
المسّ بأحد بناة الثقافة المصرية والعربية الحديثة، هو مسّ بالمسألة الوطنية. انا لا ادعو الى تقديس طه حسين او غيره من كبار ادباء العربية. نستطيع بل من الضروري اعادة قراءة النتاج الأدبي بعيون نقدية جديدة. لكنّ هناك فرقا بين النقد وبين التدمير. فالذي حاول اغتيال نجيب محفوظ يريد نبش قبر طه حسين، كي لا تكون في مصر وغيرها من ديار العرب ثقافة. قتل الثقافة هو قتل للوطن. من هنا نجد منطقاً لجنون حذف 'الأيام' من المنهاج الدراسي. فالذي يبني الجدار والذي يبرر له، يتشاركان في جريمة قتل الوطن وقتل ثقافته.
اما كارثة نجع حمادي فليست للأسف الشديد حدثاً معزولاً. انها جزء من سياق عام تعيشه المنطقة العربية في زمن الهزيمة هذا. انظروا الى العراق كي تروا المصير الذي ينتظر المشرق العربي. مأساة العراق ليست مأساة مسيحييه فقط، بل هي مأساة مسلميه ايضاً. صحيح ان مسيحيي العراق يعيشون في ظلّ الاحتلال الامريكي الوحشي لبلادهم واحدة من اكبر الكوارث التاريخية، لكن الجنون الطائفي الشيعي- السني، يكاد يطيح في شكل لا سابق له بالنسيج المجتمعي العراقي. وعندما يتفكك المجتمع، يكون الاحتلال الامريكي قد نجح في اعادة العراق الى العصر الحجري.
الهستيريا الطائفية في مصر لا تقل خطراً. فحين تركع مصر أو تتفكك ينهار المشرق العربي بأسره. وليس هناك من تفكك اكثر عمقاً او وحشية من التفكك الطائفي. قادة ثورة 1919 التي مهدت لاستقلال مصر من عهد الاستعمار البريطاني كانوا شديدي الوعي لهذه المسألة، لذا رفعوا شعار وحدة الهلال والصليب.
اما اليوم، فإن الحياة السياسية المصرية تتحلل، وهذا يقود الى مناخات مَرَضية طائفية حمقاء، كانت مجزرة نجع حمادي نموذجاً دموياً لها.
هنا ايضاً نجد ان الجنون يملك منطقه، اذ من الطبيعي ان يأتي التفكك في سياق الجدار الفولاذي. فالذي يرضخ للشروط الاسرائيلية يتخلى ليس عن الكرامة فقط، بل وعن الوطن ايضاً، ويساهم في صناعة التفكك الاجتماعي.
هناك مثل شعبي لبناني يقول 'شو علاقة طظ بمرحبا'؟ وهو مثل تستخدمه لغة العامة، في مواجهة وضع لامنطقي.
لكن فصاحة النظام العربي بنت علاقة بين متناقضات لا يمكن جمعها الا في زمن الانهيار. لذا صار اللامنطق منطقياً، في عصر الجدار الفولاذي، فتبصّروا!