من اجمل ما قرات اليوم احببت ان تشاركوني
في فَقْـدِ الأُمّ
عبد الحكيم أبو جاموس
ما أصعب أن يشعر المرء أنه صار يتيمًا، لا سيّما من جهة الأم. وما أصعب أن يحدث هذا اليُتم حين نكون على أعتاب الحادي والعشرين من آذار، يوم الأم؛ لأن هذه المناسبة ستبقى ذكرىً مؤلمة، تُؤرّقني على الصعيد الشخصي، وتُذكي آلامي، وتُجدّد أحزاني. كيف لا؟! وقد رحلت عنّي أُمّي، هكذا فجأة، ودون سابق إنذار أو استئذان، كما هي عادة الموت، ذلك الزائر القاهر، القابض المُباغت، المُدجّج بكلّ معاني الرحيل الأبديّ، وألفاظ الغياب الصعب.
أدركت متأخرًا، وقد تجاوزت الأربعين من ثلاث حجج، أن اليتيم هو يتيم الأم، وأنها فعلاً كما يقول المثل "الإمّ بِتْلمّ"، وأنا الذي لم أُجرّب الفقد بالمُقرّبين المُقرّبين، كنت أنتحب كالطفل الصغير، في حضرة جثمانها المُسجّى على دكّة غسل الموتى، كان وجهها أبيض وضّاءً متلألئًا، كالبدر المنير، ينضح بشرًا وهدوءًا وسكينة، كانت نائمةً في "حضن ربّها" ورحمته، لم أرها إلاّ هكذا، لم يختلف عليها شيء سوى أنها لم تكن تتنفّس، أو لم تفتح عينيها، كانت ملاكاً يرتدي كفن البياض، فيما تُطوّقها غابةٌ من العيون الحمراء الباكية، ينهمر دمعها الساخن ذات انقلاب ربيعيّ، لم يمهلني إهداءها عيديّتها في يومها، وهي التي كانت تُحب أن نهديها أغراضًا بيتيّة، تظلّ تذكرها، وتقول: هذا من فلان، أهدانيه في عيد الأم.
كنت في حيرةٍ من أمري حول الهديّة التي سأُقدّمها لها هذا العام، غير أنها، وكعادتها دائماً، ارتضت بالقليل، واكتفت بسيلٍ من قُبلٍ حرّى، أمطرتُها ألماً ودمعًا، وحزنًا ووداعًا، على جبينها ووجنتيها.
في الطيبة وحسن الخلق، ثمانون حولاً لم تكن كافيةً لتُسجّل في دفتر حياتها اختراقًا واحدًا.. كم تمنيتِ ودعوتِ الله ألاّ تشربي حسرة أحدٍ منّا، هنيئًا لك يا أُمّ الفوز هنيئًا لك، لقد تحقّق مُرادك.